دجلة
الخير
الجواهري شاعر حساس بكل ما تعنيه الكلمة من
معنى؛ ربما يكتب القصيدة الطويلة إذا تعرض لموقف من
المواقف، والمواقف لا تمر على الجواهري من غير أن تؤثر فيه
وتحرك فيه القريحة الشعرية، ومن ذلك عندما عانى آلام فراق
موطنه ومسكنه وأهله في العراق وحنّ إلى العودة إلى بلده
عاش حالة نفسية حرجة وهو يسكن في براغ؛ فنظم قصيدة من أروع
القصائد في العصر الحديث، ومن أجمل ما قاله من الشعر، وهي
قصيدة معبرة عما في داخله ومكنونه. ولا أظن أن شاعراً
بوسعه أن يقول مثل هذه القصيدة المعبرة إلا إذا عاش ما
عاشه الجواهري من الحزن والألم، وهي القصيدة المسماة (دجلة
الخير) وعدد أبياتها 163 بيتاً، يقول في مطلعها
:
حييتُ سفحك عن بُعد فحييني
يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ
حييتُ سفحك ظمآنا ألوذ به
لوذ الحمائم بين الماء والطين
إني وردت عيون الماء صافية
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
وأنت يا قارباً تلوي الرياح به
ليّ النسائم أطراف الأفانينِ
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني
يحاك منه غداة البين يطويني
يا دجلة الخير قد هانت مطامحُنا
حتى لأدنى طماح غير مضمونِ
أتضمنين مقيل لي سواسية
بين الحشائش أو بين الرياحينِ
خلواً من الهمّ إلا همّ خافقةٍ
بين الجوانح أعنيها وتعنيني
تهزني فأجاريها فتدفعني
كالريح تعجلُ في دفع الطواحينِ
يا دجلة الخير يا أطياف ساحرةِ
يا خمر خابية في ظل عرجونِ
يا سكتة الموت يا إعصار زوبعة
يا خنجر الغدر يا أغصان زيتونِ
يا أم بغداد من ظرف ومن غنج
مشى التبغدد حتى في الدهاقينِ
يا أم تلك التي من ألف ليلتها
للآن يعبق عطراً في التلاحينِ
يا مستجم النواسي الذي لبست
به الحضارة ثوباً وشيَ هارونِ
الغاسل الهمّ في ثغر وفي حببِ
والمُلبس العقل أزياء المجانينِ
والساحبِ الزق يأباهُ ويكرهه
والمنفق اليوم يفدي بالثلاثينِ
والراهن السابري الخز في قدح
والملهم الفن من لهو أفانينِ
والمسمع الدهر والدنيا وساكنها
قرع النواقيس في عيد الشعانينِ
|